كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسبب الخلاف الاشتراك في اسم النكاح، فهو يطلق على الوطء، وعلى العقد، فمن قال: إنّ المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى، ومن قال: المراد به العقد لم يحرّم بالزنى.
ونحن سنشرح المسألة بعض الشرح فنقول:
نقل الجصاص عن أبي عمر غلام ثعلب قال: الذي حصّلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرّد عن البصريين أنّ النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين، تقول العرب: أنكحنا الفرا فسنرى، هو مثل ضربوه للأمر، يتشاورون فيه، ويجتمعون عليه، ثم ينظر عماذا يصدرون فيه، معناه جمعنا بين الحمار وأتانه، وسمّى الوطء نكاحا، لأنّه جمع بين الرجل والمرأة، وأطلق على العقد نكاح، لأنّه سبب له.
وليس يختلف أنه قد أطلق في القرآن ولسان العرب على الوطء مرة، وعلى العقد أخرى، فمن إطلاقه على الوطء، قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] إذ لو كان العقد للزم الكذب.
وقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} [النساء: 6] وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «ناكح اليد ملعون».
وقول الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة ** وأخرى يقال له فادها

يقصد المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد.
وقول الآخر:
ومن أيّم قد أنكحتها رماحنا ** وأخرى على عمّ وخال تلهّف

ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقوله: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «النكاح من سنّتي» أي العقد، وقوله: «أنا من نكاح ولست من سفاح».
وإنما الخلاف فيما هو الراجح، أهو الوطء أم العقد؟
أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء، قالوا: لأنه فيه حقيقة، وفي العقد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام.
قالوا: ويدلّ عليه من جهة النظر أنّ الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد، لأنّا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم، كالوطء بملك اليمين، ونكاح الشبهة، وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم، وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أنّ وجود الوطء، لأنّ التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا.
وللشافعية أن يقولوا النكاح، وإن كان مجازا في العقد: ولكنه اشتهر فيه حتى صار حقيقة، كالعقيقة، كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقه مجازا، واشتهر ذلك، حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق.
وقد عبّر اللّه بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ} {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}.
ويدلّ لهم من جهة النظر أنّ اللّه جعلها محرما بالمصاهرة تكريما لها، كما جعلها محرما من النسب تكريما للنسب، فكيف يجعل هذه الحرم للزنى وهو فاحشة ومقت، وإنما جعل زوجة الأب محرما، وكذلك زوجة الابن وأم الزوجة وبنتها لشدة الاختلاط بين الأصهار، فجعلن محارم، لتنقطع طماعية المرء منهن، فيقل الفساد، لأنّ الطمع داعية الفساد، وبذلك تسهل الخلطة على الأصهار، ويأمنون مغبتها، وهذا المعنى ليس موجودا في الزنى، وهذا الذي ذكرناه يفهم من كلام الشافعي في الأم فقد قال:
فإن زنى بامرأة أبيه وابنه أو أم امرأته فقد عصى اللّه، ولا تحرم عليه امرأته، ولا على أبيه، ولا على ابنه امرأته، لو زنى بواحدة منهما، لأن اللّه عزّ وجلّ إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزا لحلاله، وزيادة في نعمته بما أباح منه، بأن أثبت به الحرمة التي لم تكن قبله، وأوجب بها الحقوق، والحرام خلاف الحلال.
والظاهر ما ذهب إليه الشافعية والقول الراجح عند المالكية عن عدم التحريم بالزنى للعلة التي ذكرت، ويكون مقيسا على النسب، فكما أن النسب لا يثبت بالزنى، كذلك التحريم لا يثبت بالزنى.
قال اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} أي حرّم نكاحهن، وحذف لدلالة الكلام عليه، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم الميتة تحريم أكلها، ولأنّ قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} يدل عليه.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وأخرج أيضا عنه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} حتى بلغ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} قال: والسابعة: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ}.
السبع اللاتي حرّمن من النسب:
1- الأم: وهي كل امرأة لها عليك ولادة، ويرتفع نسبك إليها بالبنوه، سواء أكانت منك على عمود الأب أو على عمود الأم، فتحرم عليك أمك وجداتك وإن علون من جهة الأب، أو من جهة الأم.
2- البنت: وهي كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أو بواسطة، فتشمل البنات، وبنات الأولاد وإن سفلن.
3- الأخت: وهي كل امرأة شاركتك في أصليك أبيك وأمك، أو في أحدهما، ولا تحرم أخت أختك إذا لم تكن أختا لك، كأن تكون لك أخت من أبيك لها أخت لأمها من رجل آخر.
4- العمة: كل امرأة شاركت أباك ما علا في أصليه أو في أحدهما.
5- الخالة: كل امرأة شاركت أمك مهما علت في أصليها أو في أحدهما.
6- بنت الأخ: كل امرأة لأخيك عليها ولادة.
7- بنت الأخت: كل امرأة لأختك عليها ولادة.
فإن قيل: تحريم الجدّات وبنات الأولاد، هل أخذ من الآية أم من دليل آخر؟
قلنا: إن الأم إذا كانت حقيقة في الأم المباشرة مجازا في الأم غير المباشرة فتحريم الأم من الآية، والجدات من الإجماع.
وقال بعضهم: إنّ إطلاق الأم على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي، وعلى ذلك يكون تحريم الجدات من الآية، وكذا القول فيما ماثله.
وقد اختلف في البنت من الزنى أهي داخلة في قوله: {وَبَناتُكُمْ} فتكون حراما، ولها حرمة البنت الشرعية، أم ليست داخلة، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية؟
بالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي.
ولعل أبا حنيفة نظر إلى الحقيقة، وأنها مختلقة من مائه، وبضعة منه فحرمها عليه.
أما الشافعي فنظر إلى أن الشارع لم يعطها حكم البنتية، فلم يورّثها منه، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».
والوجه ما ذهب إليه أبو حنيفة من الحرمة قياسا على ولد الزنى، فإنّه تحرم عليه أمه، وليس بينهما إلا أنه متخلق منها، وبضعة منها، فكذلك بنت الزنى مع أبيها، ونفي بعض لوازم البنت عنها للعقوبة لا يقتضي نفي البقية، وجواز نكاحها.
السبع المحرمات بغير النسب:
1- الأم من الرضاع: وهي كل امرأة أرضعتك، وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة، إما من جهة النسب، أو من جهة الرضاع.
2- الأخت من الرضاع: وهي ثلاث:
أخت لأبيك وأمك، وهي المرأة التي رضعت من أمك بلبن أبيك.
أخت لأبيك، وهي المرأة التي أرضعتها امرأة أبيك رضاعا بلبنه.
أخت لأمك، وهي المرأة التي أرضعتها أمك بلبن غير لبن أبيك.
ولم يذكر من المحرّم بالرضاع في القرآن سوى الأمهات والأخوات، والأم أصل، والأخت فرع، فنبه بذلك على جميع الأصول والفروع.
وأيضا لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه أجرى الرضاع مجرى النسب، وقد جاءت السنّة مؤكدة بصريح العبارة لهذا المفهوم، فقد ثبت أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».
وثبت في الصحاح عن علي أنه قال: قلت يا رسول اللّه مالك تنوّق في قريش وتدعنا؟
قال: «وعندكم شيء»؟
قلت: نعم، ابنة حمزة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنها لا تحلّ لي إنّها ابنة أخي من الرضاعة» وذلك لأنّ ثويبة أرضعت حمزة والنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وظاهر قوله: {وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ} يقتضي أنّ مطلق الرضاع محرّم، وبذلك قال مالك وأبو حنيفة.
وذهب الشافعي إلى أنه لا تحرّم إلا خمس رضعات، واستدل بما رواه مسلم وغيره أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تحرّم المصة ولا المصتان» «لا تحرّم الإملاجة ولا الإملاجتان».
وبما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهنّ مما يقرأ من القرآن.
وهذا الحديث الأخير لا يصحّ الاستدلال به، لاتفاق الجميع أنه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا إسقاط شيء منه، وهذا الحديث يفيد أنه سقط شيء من القرآن بعد وفاته.
وأما الحديث الأول، فكان مقتضى مذهب الشافعي أن يحرّم بما زاد على الرضعتين، لأنه يقول بالمفهوم.
وقد رأى الحنفية أنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد، لأنها محكمة، ظاهرة المعنى، بينة المراد، لم يثبت خصوصها بالاتفاق، وما كان هذا وصفه، فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس.
وقد أخرج أبو بكر الرازي عن طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقلت: إن الناس يقولون: لا تحرّم الرضعة ولا الرضعتان، قال: قد كان ذاك، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم.
فقد عرف ابن عباس خبر العدد في الرضاع، وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة.
اختلف العلماء في لبن الفحل أيحرّم أم لا يحرّم؟ وصورته: أن يتزوج رجل امرأتين، فتلدا منه، وترضع إحداهما صبية، والأخرى غلاما، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرّم حرّم الصبية على الغلام، لأنهما أخوان من الرضاع لأب، وهذا هو المتصوّر، لما ثبت في البخاري عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب، فقالت عائشة: واللّه لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني، إنما أرضعتني المرأة، قالت عائشة: فلما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلت: يا رسول اللّه! إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال: «إنه عمك فليلج عليك».